]عبدالله بن عمرو بن العاص - القانت الأوّاب
القانت، التائب، العابد، الأواب، الذي نستها الحديث عنه الآن هو: عبدالله بن عمرو بن العاص..
بقجر ما كان أبوه أستاذا في الدكاء والدهاء وسعة الحيلة.. كان هو أستاذا ذا مكانة عالية بين العابدين الزاهدين، الواضحين..
لقد أعطى العبادة وقته كله، وحياته ملها..
وثمل بحلاوة الايمان، فلم يعد الليل والنهار يتسعان لتعبّده ونسكه..
**
ولقد سبق أباه الى الاسلام، ومنذ وضع يمينه في يمين الرسول صلى الله عليه
وسلم مبايعا، وقلبه مضاء كالصبح النضير بنور الله ونور طاعته..
عكف أولا على القرآن الذي كان يتنزل منجّما، فكان كلما نزلت منه آيات حفظها وفهمها، حتى اذا تمّ واكتمل، كان لجميعه حافظا..
ولم يكن يحفظه ليكون مجرّد ذاكرة قوية، تضمّ بين دفتيها كتابا محفوظا..
بل كان يحفظه ليعمر به قلبه، وليكون بعد هذا عبده المطيع، يحلّ ما أحلّ،
ويحرّم ما يحرّم، ويتجيب له في كل ما يدعو اليه ثم يعكف على قراءته،
وتدبّره وترتيله، متأنقا في روضاته اليانعات، محبور النفس بما تفيئه آياته
الكريمة من غبطة، باكي العين بما تثيره من خشية..!!
كان عبدالله قد خلق ليكون قد
قدّيسا عابدا، ولا شيء في الدنيا كان قادرا على أن يشغله عن هذا الذي خلق له، وهدي اليه..
اذا خرج جيش الاسلام الى جهاد يلاقي فيه المشركين الذين يشنون عليه لحروب
والعداوة، وجدناه في مقدمة الصفوف يتمنى الشهادة بروح محب، والحاح عاشق..!!
فاذا وضعت الحرب أوزارها، فأين نراه..؟؟
هناك في المسجد الجامع، أو في مسجد داره، صائم نهاره، قائم ليله، لا يعرف
لسانه حديثا من أحاديث الدنيا مهما يكن حلالا، انما هو رطب دائما بذكر
الله، تاليا قرآنه، أو مسبّحا بحمده، أو مستغفرا لذنبه..
وحسبنا ادراكا لأبعاد عبادته ونسكه، أن نرى الرسول الذي جاء يدعو الناس
الى عبادة الله. يجد نفسه مضطرا للتدخل كما يحد من ايغال عبدالله في
العبادة..!!
وهكذا اذا كان أحد وجهي العظة في حياة عبدالله بن عمرو،
الكشف عما تزخر به النفس الانسانية من قدرة فائقة على بلوغ أقضى درجات
التعبّد والتجرّد والصلاح، فان وجهها الآخر هو حرص الدين على القصد
والاعتدال في نشدان كل تفوّق واكتمال، حتى يبقى للنفس حماستها وأشواقها..
وحتى تبقى للجسد عافيته وسلامته..!!
لقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عبدالله بن عمرو بن العاص يقضي حياته على وتيرة واحدة..
وما لم يكن هناك خروج في غزوة فان أيامه كلها تتلخص في أنه من الفجر الى الفجر في عبادة موصولة، صيام وصلاة، وتلاوة قرآن..
فاستدعاه النبي اليه، وراح يدعوه الى القصد في عبادته..
قال له الرسول عليه الصلاة والسلام:
" ألم اخبر أنك تصوم الناهر، ولا تفطر، وتصلي الليل لا تنام..؟؟
فحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام..
قال عبدالله:
اني أطيق أكثر من ذلك..
قال النبي صلى الله عليه وسلم:
فحسبك ان تصوم من كل جمعة يومين..
قال عبدالله:
فاني أطيق أكثر من ذلك..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فهل لك اذن في خير الصيام، صيام داود، كان يصوم يوما ويفطر يوما..
وعاد الرسول عليه الصلاة والسلام يسأله قائلا:
وعلمت أنك تجمع القرآن في ليلة
واني أخشى أن يطول بك العمر
وأن تملّ قراءته..!!
اقرأه في كل شهر مرّة..
اقرأه في كل عشرة أيام مرّة..
اقرأه في كل ثلاث مرّة..
ثم قال له:
اني أصوم وأفطر..
وأصلي وأنام.
وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي
فليس مني".
ولقد عمّر عبدالله بن عمرو طويلا.. ولما تقدمت به السن ووهن منه العظم كان يتذكر دائما نصح الرسول فيقول:
" يا ليتني قبلت رخصة رسول الله"..
**
ان مؤمنا من هذا الطراز ليصعب العثور عليه في معركة تدور رحاها بين جماعتين من المسلمين.
فكيف حملته ساقاه اذن من المدينة الى صفين حيث أخذ مكانا في جيش معاوية في صراعه مع الامام علي..؟
الحق أن موقف عبدالله هذا، جدير بالتدبّر، بقدر ما سيكون بعد فهمنا له جديرا بالتوقير والاجلال..
رأينا كيف كان عبدالله بن عمرو مقبلا على العبادة اقبالا كاد يشكّل خطرا حقيقيا على حياته، الأمر الذي كان يشغل بال أبيه دائما، فيشكوه الى رسول الله كثيرا.
وفي المرة الأخيرة التي امره الرسول فيها بالقصد في العبادة وحدد له مواقيتها كان عمرو حاضرا، فأخذ الرسول يد عبدالله، ووضعها في يد عمرو ابن العاص أبيه.. وقال له:
" افعل ما أمرتك، وأطع أباك".
وعلى الرغم من أن عبدالله، كان بدينه وبخلق، مطيعا لأبويه فقد كان أمر الرسول له بهذه الطريقة وفي هذه المناسبة ذا تأثير خاص على نفسه.
وعاش عبدالله بن عمرو عمره الطويل لا ينسى لحظة من نهار تلك العبارة الموجزة.
" افعل ما أمرتك، وأطع أباك".
[/size][/size]