كان- رضي الله عنه
- لا يرضى مظلمة. دخل بعضهم يبايعه فقبض يده ، فقال: لِمَ أيها الأمير؟
قال:اُغْرُبْ عني، تَجْلِدُ فلانًا سبعين جلدة؛ لأنه آذى ابنك؟ ما غضبت
لله، وإنما غضبت لنفسك ولابنك، والله لن تلي لي عملا أبدًا بعد اليوم.
قطع أُعْطٍيَات بني
أمية وصلاتهم؛ فغضبوا، وأرسلوا له ابنه [ عبد الملك ] فقال لابنه: قل لهم:
( قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ )
أَلْجم عمر نفسه بهذا اللجام، فهلا أَلْجمنا أنفسنا بلجام : ( إِنِّي
أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ )؟
وَلَّى العُبَاد
والزُّهاد واختارهم فقامت الدنيا ، يقول [ميمون بن مهران]: لقد أخبرنا
رعاة الأغنام أن الذئب في خلافة عمر ما كان يَعْدُو على الأغنام. فيا لله
حتى البهائم تسعد في ظل العدل وتأمن؟! لما تُوفِى عمر عَدَتْ الذئاب على
الأغنام، فعرف البوادي أنه مات رجل عادل. فالعدل أمن وسكينة وطمأنينة
وبالعدل قامت الدنيا.
كان شديد المحاسبة
لنفسه وَرِعًا تقيًا ، كان يقسم تفاحًا أفاءه الله على المسلمين، فتناول
ابن له صغير تفاحة، فأخذها من فمه، وأوجع فمه فبكى الطفل الصغير، وذهب
لأمه فاطمة، فأرسلت من اشترى له تفاحًا، وعاد إلى البيت وما عاد معه
بتفاحة واحدة، فقال لفاطمة: هل في البيت تفاح؟ إني أَشُمُ الرائحة، قالت:
لا، وقصت عليه القصة –قصة ابنه- فَذَرفت عيناه الدموع وقال: والله لقد
انتزعتها من فم ابني وكأنما أنتزعها من قلبي ، لكني كرهت أن أضيع نفسي
بتفاحة من فيْء المسلمين قبل أن يُقَسَّم الفَيءُ. فيا لله! وربِّ عمر إن
مشهدًا كهذا خير من الدنيا وما فيها من زخرف ومتاع.( وَمَا يُلَقَّاهَا
إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ )
كان متواضعًا لله ، مدحه رجل في وجهه فقال : يا هذا أما إنك لو عرفت من
نفسي ما أعرف منها ما نظرت إلى وجهي. ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه .
كان شديد الخوف من
الله جل وعلا ، ومن خاف أدلج ، ومن أدلج بلغ المنزل ، كان يذكر الله في
فراشه – كما تقول زوجه - ثم ينتفض كما ينتفض العصفور المبلل، حتى أقول
ليصبحن الناس ولا خليفة لهم، ثم تقول: يا ليت بيننا وبين الخلافة بُعْدَ
المشرقين، والله ما رأينا سرورًا مذ تولى الخلافة عمر ، تقول فاطمة زوجه:
أمسى ذات ليلة ، وقد فرغ من استعراض حوائج المسلمين ، ثم أطفأ السراج ، ثم
قام فَصَلَّى ركعتين ، ثم جلس واضعًا رأسه على يديْه تتسايل دموعه على خده
، يشهق الشهقة فأقول: قد خرجت نفسه وانصدعت كَبِدُه، فلم يزل كذلك حتى
أصبح الصبح، ثم أصبح صائمًا، تقول زوجه: فدنوت منه، وقلت: يا أمير
المؤمنين كثير ما كان منك الليلة أَأَمر ألمَّ بك أم ماذا دهاك ؟ فأجابها
– وقد نصب خوف الله أمام عينيْه - قائلا: إني نظرت في نفسي، فوجدتني قد
وليت أمر هذه الأمة صغيرها وكبيرها وأسودها وأحمرها ، ثم ذكرت الغريب
والفقير واليتيم في أقاصي البلاد، فعلمت أن الله سائلي عنهم، وأن محمدًا
–صلى الله عليه وسلم- حجيجي فيهم، فخفت أن لا يثبت لي عند الله عذر، فخفت
خوفًا دمعت له عيني، وَوَجَلَ له قلبي، وكلما ذكرتُ ذلك ازداد خوفي وجلاً،
ثم انْهدَّ باكيًا-رضي الله عنه ورحمه
أواه! من لنا بمثل
عمر؟! عجزت نساء الأرض أن ينجبن مثلك يا عمر، بكت فاطمة زوجه بعد وفاته
حتى عشي بصرها، ودخل عليها إخوتها قائلين: ما هذا يا فاطمة؟ أجزعك على
عمر؟ فهو والله أحق مَنْ يُجْزَعُ على مثله، أم على شيء من الدنيا؟
فأموالنا بين يديْك وما أخذت منها خير مما تركت. قالت: والله لا هذا ولا
ذاك. لكني رأيت من عمر ليلةً منظرًا ما تذكرته إلا بكيت ، رأيتُه ليلةً
قائمًا يُصَلِّي، ثم جلس يقرأ حتى أتى على قول الله: ( يَوْمَ يَكُونُ
النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ* وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ
الْمَنفُوشِ) ، فصاح : واسوء صباحاه ثم وثب ثم سقط فجعل يَئِنُّ حتى ظننت
أن نَفْسَه ستخرج ، ثم هدأ ثم نادى : وا سوء صباحاه، ثم قام ، وهو يقول :
وَيْلٌى من يوم يكون الناس فيه كالفراش المبثوث ، فلم يزل كذلك حتى طلع
الفجر، ثم سقط كأنه ميت حتى سمع الأذان ، فقام. تقول : فو الله ما ذكرت
ليلته تلك إلا غلبتني عيناي فلم أملك رد عبرتي فأسأل الله أن يؤمنه وأن
يؤمننا. (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ
الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ ) خاف الله في الدنيا ونسأل الله أن
يؤمنه في الآخرة .
هذه مواقف من حياة
عمر ومن خوفه من الله وزهده وعدله، هذا هو عمر الذي جلس للناس مربيًا
ومعلمًا وأبًا وأخًا. هذا هو عمر لمن أراد أن يقتدي بعمر، وكلكم راع وكلكم
مسئول عن رعيته، وما من راع استرعاه الله رعية بات غاشًا لهم إلا حرم الله
عليه رائحة الجنة.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم *** إن التشبه بالكرام فلاح
اللهم أخرج من
أصلاب هذه الأمة رجالاً كعمر يردون الأمة إليك ردًا جميلاً، اللهم وأصلح
لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وآخرتنا التي
إليها معادنا إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير، أقول ما تسمعون وأستغفر
الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب
العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد
وهو على كل شيء قدير وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم،
وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعـد عباد
الله؛ فلكل أجلٍ كتاب، ولكل بداية نهاية ( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ *
وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ ) ، ( كُلُّ
نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ) يموت كل صغير وكبير وذكر وأنثى ومُقرٍّ
وجاحد وزاهد وعابد، (كُلُّ نَفْسٍ ذائقة الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ
أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ
الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاّ مَتَاعُ
الْغُرُورِ ).
وتنتهي حياة
الأخيار بالنهاية الحميدة ؛ فكأن الأخيار ما بَئِـسُوا مع من بَئِسَ، ما
كأنهم سهروا في طاعة الله، ما كأنهم تعبوا، ما كأنهم جاعوا بعد أن تنعموا؛
لأنهم صُبِغُوا في الجنة صَبْغَةً فزال كل بؤس وألم ونصب وتعب وَوَصَبٍ،
وتنتهي في المقابل حياة الفجار بحفرة من حفر النار، فما كأن الفجار تنعموا
ولا أكلوا ولا تلذذوا عند أول صبغة في النار يزول كل نعيم، لا خير في لذة
من بعدها النار.
وتأتي وفاة [ عمر ]
الذي كان من أعظم ما قاده إلى الله ذكر الموت، اشتد به المرض وأدخل عليه
الأطباء، ووضعوا له العلاج المناسب والشفاء بيد بارئه سبحانه وبحمده،
فقال: والله لو كان دوائي في أن أرفع يدي اليمنى إلى أذني ما فعلت، والله
ما أنا بحريص على الدنيا فقد مللتها، لكني أسأل الله أن يُسَلِّم. استدعى
خادما له وقال : أسألك بمَنْ يجمع الناس ليوم لا ريب فيه أأنت سممتني في
الطعام؟ قال الخادم: إي والله. قال: فكم أعطوك على ذلك؟ قال: ألف دينار.
قال: اذهب فأنت حر لوجه الله، والله يحب المحسنين. دخل الناس عليه
يعودونه، وكان كلما عاده أحد قال له: اُعْفُ عني عفا الله عنك.
قام وخطب الناس
فكان مما قال: اتقوا الله قبل حلول الموت بكم إني لأقول هذا وما أعلم أحد
عنده من الذنوب أكثر مما عندي. ثم خنقته عبرته فأخذ طرف ردائه فوضعه على
وجهه يبكي، فما بقي أحد إلا بكى لبكائه، ولم يخطب بعدها-رحمه الله-.
وفي ضحى يوم عيد
الفطر حلت به سكرات الموت، التي لابد من حلولها بكل واحد منا ونسأل الله
أن يحسن الختام، فجاءه [مسلمة بن عبد الملك] فقال له: إنه قد نزل بك ما
نزل، وإنك تركت صبيتك صغارًا لا مال لهم فأوص بهم إليَّ.، فجلس وقال:
والله ما منعتهم حقًا هو لهم، ووالله لن أعطيهم ما ليس لهم، إن بنيّ أحد
رجلين: إما رجل يتقي الله فسيجعل الله له مخرجًا، وإما مُكِبٌ على المعصية
فلم أَكُنْ لأقويه على معصية الله، ثم أمر فقال: ادعوا أبنائي جميعًا
فدعوهم، وكانوا بضعة عشر صبيًا كأنهم فراخ، نظر إليهم بحنان الوالد، نظر
لضعف طفولتهم وبراءة أعينهم؛ فذرفت عيناه الدمع ثم قال: أفديكم بنفسي
أيتها الفتية الذين تركت ولا مال لهم، أي بَنيّ إن أباكم كان بين أمرين:
إما أن يُغْنيكم ويدخل النار، أو يُفْقركم ويدخل الجنة. فاختار أن يفقركم
ويدخل الجنة، لكن إن وَلِيَّ فيكم الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولى
الصالحين. انصرفوا –عصمكم الله-، فانصرف أبناؤه، فجعل يبتهل إلى الله في
خشوع ويقول: رباه أنا الذي أمرتني فقصرت ونهيتني فعصيت، رباه ما عندي ما
أعُدُه إلا خوفي منك وحسن ظني بك وأن لا إله إلا أنت، ثم أمر الناس أن
يخرجوا فكانوا يسمعونه يقول: ( تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا
لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَادًا
وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ )
أسلَّمَ الروح إلى
باريها- فرحمة الله عليه - ، جسد لُفِّفَ في أثماله ، رحمة الله على ذاك
الجسد كان يقول قبل وفاته: إذا غسَّلتموني وكفَّنتموني ووضعتموني في لحدي
فاكشفوا عن وجهي، فإن ابْيضَّ فاهنئوا، وإن اسْودَّ فويلٌ لي، ثم ويلٌ لي.
يقول [رجاء] : فكنت فيمن غسَّله وكفَّنه وأدخله لَحده، وحلَلْت العُقدة من
كفنه، ثم نظرت إلى وجهه، فإذا هو كالقراطيس بَياضًا. بيَّض اللهُ وجهه
يومَ تبيضُّ وجوهٌ وتسودُّ وجوه.
أسلم الروحَ عمر،ُ
فأُسكِتَ فمٌ لطالما تلجلج بذكر الله، وأُغمِضتْ عينان لطالما ذَرَفَتا من
خشية الله، واستراحتْ يدان لطالما هَدَت لما يُرضي الله. ودَّع الأمة
والجياع شبعوا، والخائفون أَمِنُوا والمستضعَفون نُصروا بإذن ربهم، وجد
اليتامى فيه أبًا لهم، والأيامى لهم كافلا، والتائهون لهم دليلاً،
والمظلومون لهم نصيرًا، وحلَّت المصيبة بالمسلمين، وأُغلقت القلوب بحزنها،
والعيون بدمعها.
فاليومُ تنعمُ يا عُمرْ *** بجوار من أَهدى البشرْ
فسَقى رُفـاتِك وَابلاً *** مِن مـاءِ غيثٍ منهمرْ
يقول [ مسلمة ]:
يرحمك الله يا عمر، لقد ليَّنتَ قلوبًا قاسية، وأبقيتَ لنا في الصالحين
ذِكرًا. ذهب عمر بعد أن حقَّقَ العدل والطمأنينة والسكينة والأمن بالإيمان
في سنتين وخمسة أشهر وبِضعة أيام، كان كثيرًا ما يقول ويردِّد: إنَّ الليل
والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما، إنَّ الرجال لا تُقاس بالأعمار ولكن
بالهِمَم والأعمال.
مات عمر وما مات
ذِكره، ولا يموت ذِكرُ الصالحين، لهج المسلمون بالدعاء والثناء عليه، ليس
المسلمون فحسب، هاهو ملك الروم [ليون الثالث] يقول : لو كان رجل يُحيِى
الموتى بعد عيسى لكان عمر، واللهِ لا أَعجَب من راهبٍ جلس في صَوْمعته
وقال إنَّي زاهد، لكنِّي أعجب من عمر يوم أَتَتْه الدنيا حتى أناخت عند
قدميه فركلها بقدميه وأعرض عنها واختار ما عند الله.، ليس هذا فحسب، بل
بكى عليه أحد رُهبان النصارى، فقيل له: لِمَ تبكي عليه وعمر على غير دينك؟
قال : يرحمه الله قد كان نورًا في الأرض فأُطفِئ.
هذه سيرة عمر أيها
الأخ الكريم . هل أعجبتك؟ إن أعجبتك فاقْتَدِ بها، اقْتَدِ بعُمر
وبالصالحين علَّك أن تكون بعضَهم إن لم تكن جُلَّهُم، فإن لم تستطع ذلك
وجاهدتَ نفسك فأحبَّهم، فالمرءُ مع مَنْ أَحبَّ.
إذا أعجبتك خِصــال امرئٍ *** فَكُنه يَكُن منك ما يُعجبكْ
فليس على الجُودِ والمَكرُماتِ *** إذا جِئتَها حاجبًا يحْجِبُكْ
اللهم: يا من لا
تراه العيون، ولا تُخالِطه الظنون، ولا يصِفه الواصفون، يا من قَدَّر
الدهور، ودبَّر الأمور، وعلِم هواجس الصدور، يا من عزَّ فارتفع، وذلَّ
كلَّ شيء له فخضع، وجهك أكرم الوجوه، وجاهُك أعظم الجاه، وعطيِّتك أعظم
العطيِّة ، تجيب المضطرَّ، وتكشف الضرَّ، وتغفر الذنب، وتقبل التوب، لا
إله إلا أنت يا من أظهر الجميل ، يا من ستر القبيح ، يا من لا يهتِك
الستر، يا حَسَنَ التجاوز، يا واسعَ المغفرة، يا باسطَ اليدين بالرحمة، يا
عظيمَ المَنِّ، يا كريمَ الصَّفْح، يا صاحبَ كلِّ نَجْوَى .
[/size]