قبل اربع اعوام ونصف
بالتمام والكمال، ترجل فارس القضية، ورمز الأمة، سيد الشهداء، وأول المرابطين في
أرض الرباط، ترجل أبو عمار لكن كوفيته لم تسقط.
لم يكن لهذا الرجل الرمز من
مصير آخر سوى ما كتبه له الله كان من الذين صدقوا ما عاهدوا الله والأمة. لم يبدل
أبو عمار طيلة مشواره ومسيرته الطويلة، خمسين عاما من الكفاح والنضال، ولم يتعب من
النضال ولا مل من الكفاح.
خمسون عاما حمل أبو عمار قضية الأمة وقضية الشعب
على كتفه، أخرجها من ملفات وأدراج اللاجئين ، زرع الحلم الفلسطيني ورعى الهم
الوطني، وبنا الثورة وأطلق رصاصتها الأولى في ميادين القتال وساحات الوغى، لم يطلق
رصاصته الأولى من شرفات القصور، ولا من صالونات ومزادات العهر السياسي في أيام
التردي العربي.
آمن أبو عمار طيلة مسيرته النضالية أن الشعب الفلسطيني، "شعب
الجبارين" لا يمكن له أن يهون ولا أن يستكين للظلم والعدوان مهما طال النفق واشتدت
حلكة الظلمات فيه. كان مؤمنا بعدالة قضيته وحق شعبه بالحياة الكريمة الآمنة، سار
على درب الآلام والأشواك تحمل من ظلم ذوي القربى، وما لان، واجه العدو في الداخل
والخارج، وما انتصر إلا لفلسطين، كانت هي قضيته الأولى وكان هو فينقها الذي انتفض
من الرماد في وقت كانت فيه الأحلاف والتحالفات الدولية والإقليمية كلها تسعى لوأد
فلسطين وتقاسمها وتشتيت أبنائها، وتدنيس قدسها.
لم يكن أبو عمار مجرد "رئيس
أو زعيم أو قائد. كان هو الرمز بامتياز في عصر عزت فيه الرموز على الأمة والشعب. ل.
امتشق أبو عمار قرار فلسطين المستقل سلاحا في وجه الخصوم قبل الأعداء والأخوة قبل
الأصدقاء، فعادت فلسطين لنفسها وذاتها عروس الأمة وتاجها وعنوانها، ولم يكن ممكنا
بعد حصارها أو تغيبها أو بيعها لا هي ولا ناسها في سوق النخاسة، فانتصرت فلسطين
الغائبة المغيبة لأبو عمار ومعها انتصرت الأمة لرمز أبى ورفض أن يساوم أو يستسلم،
بل أصر على الحق والعدل، وعلى الرباط في أرض الرباط.
عشرون عاما بالتمام
والكمال عرفت أبو عمار زعيما ورمزا وقائدا، كرمني وشرفني بالعمل معه مستشارا، كان
تكريما مهيبا بقدر ما كان تكليفا لا يمكن الاستهانة بجسامته وحجمه، فليس سهلا أن
تعمل مع رمز أمة بأكملها فما بالك لو كان هذا الرمز أبو عمار دون غيره.
عرفت
أبو عمار طيلة عقدين من الزمن عن قرب، واقتربت منه ما استطعت فوجدت فيه القائد
الرمز والأب الحنون والأخ الموجه والمقاتل الصلب، والمفاوض المحنك، ورجل
الصعاب.
كان أبو عمار قد أصبح الرقم الصعب في المعادلة الفلسطينية، المعادلة
التي نفض عنها ما تراكم من غبار تمهيدا لدفنها وطرحها معادلة عصية لا يمكن تجاهلها
ولا شطبها، لا محليا ولا إقليميا ولا دوليا.
كان سياسيا من الطراز النادر،
يعرف من أين تؤكل الكتف، متيقظ، يلتقط الإشارة مهما كانت صغيرة ليعرف دلالتها، أدرك
أنه لا بد له من مواجهة كل المؤامرات، وكانت الوحدة الحقيقة البعيدة عن الشعارات
الزائفة، والمأجورة حرز الأمن والأمان في عرفه ومعتقده، ففتح صدره على رحابة لم
تتوفر لأي زعيم من قبل، فاتسع صدره حتى لأولئك الانتهازيين الذين كانوا يطعنونه
ويقدحونه ليحصلوا على جواز سفر لقصور الرؤساء و لبلاط الملوك والأمراء ، علهم
يقبضون المعلوم، كان يفتح لهم صدره وهو يعلم خطاياهم ويدرك حجم خطيئتهم معتقدا أنه
بذلك قد يحتوي الصالح والطالح، منذ بيروت مرورا بتونس وحتى رام الله.
وفي
رام الله كان الحصار المجنون والأرعن، وصمد أبو عمار وما هان، وظل شامخا منتصب
القامة، حاصروه وعزلوه، وظلت كوفيته رمزا لصموده ولم تسقط، ولهذه الكوفية قصة .
أذكر أنني في إحدى المرات التي دخلت فيها المقاطعة بعد فك الحصار الأول قلت له وأنا
أمسك بكوفيته: "هذه كوفية العرب إن سقطت سقط العرب"، فانفرجت أساريره وكأنه طفل قد
انتصر.
ترجل أبو عمار ورحل عنا لكن كوفيته لم تسقط، كان هناك من شعروا في
أوج الحصار أن حصاره يحرجهم، أما نحن فشعرنا بعد غياب أبي عمار ورحيله أن رحيله
يريحهم من دم عثمان فلسطين.
أذكر لحظة دخولي إلى غرفتك الصغيرة دقائق قبل
رحيلك إلى باريس رأيتك مريضاً شاحباً فدمعت عيناي فبادرتني بعد أن جمعت قواك
الخائرة "أنا راجع يا أحمد"... وقفنا , بعد أن صعدت مروحيتك إلى السماء, وقفنا
أبناؤك توفيق الطيراوي وعزام الأحمد وأنا نلوح لك كالأطفال الذين يخافون من الفراق
واليتم وكأن شعورنا أن هذا هو التحليق الأخير لطائر الفينيق, فدمعت عيوننا ثانيةً
وثالثة.
سيدي الرئيس , لم تكن فرصة لأتحدث إليك طيلة هذا العام.. فعذرا
!
وإسمح لي أن أبلغك بأن شعبك ما زال صامداً , وأن الحواجز العسكرية قد زادت
وأن جدار الفصل العنصري يتلوى كالأفعى في الأرض الفلسطينية تماماً كما هي الخرائط
التي كنت تفردها للذين أرادوا أن يسمعوا أو لم يريدوا. المسجد الأقصى ما زال هناك
شامخاً وكأنه كان ينتظر قدومك للصلاة فيه أو للصلاة عليك فيه, وغزة ما زالت تلاطم
المخرز رغم نزوح عساكر الإحتلال , وبعض ابنائك هناك يسيؤون استخدام السلاح. أما بعض
زملائك من الملوك والرؤساء فهم كما عهدتهم فلم يتغير شيئاً فيهم. والعراق الذي
أحببت ما زاال ينزف نزفاً موجعاً وكما كنت قد قلت لي فهم يريدون تقسيمه. وإذا أردت
أن تبتسم قليلاً يا أبا عمار فاخوانك في موريتانيا زادوا من طول البساط الأحمر
لسيلفان شالوم وذلك في نفس اليوم الذي سقط فيه الشهداء في طولكرم وجنين وتهدمت
المنازل في نابلس والقدس الشريف. أما تلك المرأة التي جاءتك مره إلى مكتبك في غزة
في يوم عيد تتوسل إليك بأنها تريد إطعام أبنائها فذرفت عيناك بكاءً بحضوري فيقيناً
أنها رحلت حزينة ربما دون أن تستطيع توفيرالعيش الكريم رغم إلتفاتتك الحنونة
إليها.
أسمع صوتك أحياناً يهدأ من روعي وروع من خلفت وراءك تشد من أزرهم وتبتسم
رغم الصعاب لتدَب فينا جميعاً روح التفائل واليقين بأن شبلاً من أشبال شعبنا وزهرةً
من زهور بلادنا سيرفع علم فلسطين عالياً فوق كنائس ومساجد القدس وفوق أسوارها.. يا
أيها الأب الذي ما فتأ يسأل عن أبنائه وبناته وشعبه حتى وهو مسجى في قبر داخل غرفة
هي أوسع من الغرفة التي كان يعيش فيها محاصراً.
ترجلت يا أبو عمار وما سقطت
كوفيتك، ترجلت وسيبقى شعبك يذكرك رمزا رغم المحاولات لمحو ذكراك واسمك، وهو في رباط
إلى يوم الدين، وها هو أخيك ورفيق د أبو مازن يكمل المسيرة على طريق أهل الرباط
يمخر في عباب الأمواج العاتية والعواصف المتدافعة من كل صوب، يواصل الطريق نحو بر
الأمان لهذا الشعب على طريق الدولة وعامتها القدس الشريف.
قال تعالى في محكم
تنزيله، بسم الله الرحمن الرحيم: " من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه
فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا". صدق الله العظيم.
ذهبت
ولم ترجع . ذهبت ولم تعد رغم وعدك . فهل سيعود شعبك رغم وعدهم يا ابو عمار
؟
تحيةً لك والدي العزيز, تحيةً لك سيدي الرئيس