وعلى الرغم من التمييز المنطقي بين أن نكون مدركين لمشاعرنا، وأن نعمل على تغييرها، نجد أن جون ماير العالم السيكولوجي بجامعة هامبشير، الذي وضع نظرية الذكاء الوجداني ، قد اكتشف أن الوعي بالمشاعر والقيام بالأفعال من أجل الأهداف العملية كلها عادة جنباً إلى جنب ويداً بيد.. ذلك لأن مجرد إدراكنا أن المزاج سيء، فهذا معناه الرغبة في التخلص منه والتعرف على الحالة النفسية شيء متميز عما نبذله من جهود حتى لا نقوم بفعل ما بدافع انفعالي.
واكتشف ماير أن الناس يميلون إلى اتباع أساليب متميزة للعناية بعواطفهم والتعامل معها:
الوعي بالنفس:
إن أولئك البشر الذين يدركون حالتهم النفسية في أثناء معايشتها، عندهم بصورة متفهمة بعض الحنكة فيما يخص حياتهم الانفعالية.. ويمثل إدراكهم الواضح لانفعالاتهم أساساً لسماتهم الشخصية.. هم شخصيات استقلالية واثقة من إمكاناتها، ويتمتعون بصحة نفسية جيدة، ويميلون أيضاً إلى النظر للحياة نظرة إيجابية. وعندما يتكدر مزاجهم لا يجترونها ولا تستبد بأفكارهم، هم أيضاً قادرون على الخروج من مزاجهم السيء في أسرع وقت ممكن.. باختصار تساعدهم عقلانيتهم على إدارة عواطفهم وانفعالاتهم..
الغارقون بانفعالاتهم:
هؤلاء الأشخاص هم من يشعرون غالباً بأنهم غارقون في انفعالاتهم، عاجزون عن الخروج منها، وكأن حالتهم النفسية قد تملكتهم تماماً. هم أيضاً متقلبو المزاج، غير مدركين تماماً لمشاعرهم إلى الدرجة التي يضيعون فيها ويتيهون عن أهدافهم إلى حد ما، ومن ثم فهم قليلاً ما يحاولون الهرب من حالتهم النفسية السيئة، كما يشعرون بعجزهم عن التحكم في حياتهم الوجدانية.. إنهم أناس مغلوبون على أمرهم، فاقدو السيطرة على عواطفهم..
المتقبلون لمشاعرهم:
هؤلاء على الرغم من وضوح رؤيتهم بالنسبة لمشاعرهم، فإنهم يميلون لتقبل حالتهم النفسية، دون محاولة تغييرها، ويبدو أن هناك مجموعتين من المتقبلين لمشاعرهم:
المجموعة الأولى: تشمل من هم عادة في حالة مزاجية جيدة، ومن ثم ليس لديهم دافع لتغييرها.. والمجموعة الثانية تشمل من لهم رؤية واضحة لحالتهم النفسية ومع ذلك حين يتعرضون لحالة نفسية سيئة، يتقبلونها كأمر واقع، ولا يفعلون أي شيء لتغييرها على الرغم من اكتئابهم. وهذا النموذج من المتقبلين يدخل في إطار المكتئبين الذين استكانوا لليأس..
عبيد العاطفة..
منذ عصر أفلاطون، ظل الإحساس بتفوق النفس وقدرتها على مواجهة العواصف الوجدانية الناتجة عن ضربات القدر بدلاً من الاستسلام لها لكي نصبح عبيداً للعاطفة، ظل هذا الإحساس فضيلة تستحق الإشادة بها دائماً..كانت الكلمة اليونانية لهذه الفضيلة هي (سوفروزايم sophrozyme )أي الانتباه والذكاء في إدارة حياتنا: بمعنى الإتزان والحكمة.. أما الرومان والكنيسة المسيحية القديمة فقد أطلقوا عليها اسم (temprrantia ) أي ضبط النفس، أو كبح جماح الإفراط في الانفعال، والهدف من ذلك تحقيق التوازن الوجداني وليس قمع العاطفة، لأن لكل شعور قيمته ودلالته.. فالحياة من دون عاطفة تصبح أرضاً حيادية قاحلة ومملّة، منقطعة ومنعزلة عن ثراء الحياة نفسها..والمطلوب، كما لاحظ (أرسطو) انفعال يناسب الظرف ذاته، فعندما يكبت الانفعال تماماً فإن ذلك يؤدي إلى الفتور والعزلة، وعندما يخرج عن إطار الانضباط والسيطرة ويصبح بالغ التطرف، والإلحاح، فإنه يتحول إلى حالة مرضية، تحتاج إلى العلاج مثل الاكتئاب المؤدي إلى الشلل، والقلق الساحق، والغضب الكاسح، والتهيج المجنون..
ولا شك في أن مفتاح سعادتنا الوجدانية يكمن في ضبط انفعالاتنا المزعجة بصورة دائمة، هذا؛ لأن التطرف المتزايد والمكثف في العواطف لفترة طويلة يؤدي إلى تقويض استقرارنا.ومن الطبيعي ألا نشعر طوال الوقت بنوع واحد من الانفعال.. والواقع أن هناك الكثير مما يقال عما تسهم به المعاناة البناءة في الحياة الإبداعية والروحانية، لأن المعاناة تهذب الروح..ولا شك في أن تقلبات الدهر بما فيها من سعادة وتعاسة تعطي الحياة نكهة خاصة، وإن كانت تحتاج إلى التوازن..وما يحدد الإحساس بالسعادة - بحساب القلب - هو معدل العواطف الإيجابية والسلبية. وهذه - على الأقل - هي الحكمة التي خرجت بها دراسات عن طبائع مئات الرجال والنساء، وحالاتهم النفسية التي مرت عليهم، وسجلوا انفعالاتهم في تلك الأوقات.. مثل هؤلاء لا يحتاجون إلى تجنب المشاعر غير السارة للإحساس بالرضا عن حياتهم، لكنهم لا يتركون أنفسهم تحت رحمة مشاعرهم العاصفة دون كبح جماحها حتى لا تحل محل حالتهم النفسية المبتهجة، وثمة أناس يتعرضون لنوبات عارمة من الغضب والاكتئاب، ويمكن لأولئك الناس أن يشعروا بالرضا نحو حياتهم إذا ما تناوبتهم بقدر متساو فترات من الفرح والابتهاج..
تحليل ثوة الغضب..
يبدو أن الغضب هو أكثر الحالات تصلباً وعناداً من بين كل الحالات التي يرغب الناس في الهروب منها، فقد انتهت (تايس) من دراستها إلى أن الغضب هو أسوأ الحالات النفسية التي يصعب السيطرة عليها. والغضب هو أكثر هذه الحالات غواية وخطأ على العواطف السلبية، ذلك لأن المونولوج الداخلي الذي يحث على الغضب والمبرر أخلاقياً، يملأ عقل الغاضب بالذرائع المقنعة ليصب جام غضبه.. والغضب ليس مثل الحزن، لأنه انفعال يولد الطاقة والتنبه.. فالغضب لديه قدرة على الإغواء والحفز، وربما كان هذا هو السبب في الأفكار الشائعة عنه بأنه يصعب التحكم فيه أو أنه لا ينبغي كظمه.. بل أكثر من ذلك، أن التنفيس بالغضب يطهر النفس وهو في مصلحة الغاضب، أما الرأي الآخر المضاد للرأي السالف والذي قد يكون رد فعل على الصورة الكئيبة التي يرسمها الرأيان الآخران، فيتمثل في القول إن الغضب يمكن الحيلولة دون حدوثه تماماً.
والواقع أن تسلسل الأفكار الغاضبة الذي يؤجج الغضب، من الممكن أن يكون هو نفسه مفتاح أقوى الوسائل للتخفيف من شدة الغضب، وذلك بوضع حد للأفكار التي توقد نار الغضب في مهدها.. وكلما طال الوقت الذي نجتر فيه الأسباب التي أثارت غضبنا، وجدنا (أسباباً طيبة) نلفقها ونخترعها لنبرر بها لأنفسنا أسباب غضبنا، لكن إذا نظرنا للأمور بشكل مختلف فسوف تهدأ هذه النيران المشتعلة. وهذا ما انتهت إليه (تايس) في بحثها فقد وجدت أن إعادة وضع موقف ما إيجابياً في إطاره، كان أكثر السبل الفعالة لوقف الغضب..
كيف يمكن بهذه القدرات أن نصون علاقتنا الأكثر أهمية أو كيف يفسد الافتقار إلى هذه القدرات تلك العلاقات.. وكيف تسبغ قوى السوق التي تعيد تشكيل حياتنا العملية أهمية غير مسبوقة على الذكاء الوجداني من أجل تحقيق النجاح في العمل. وكيف تتسبب العواطف المسمومة في تهديد صحتنا الجسدية وإصابتها بالمخاطر، تماماً كما يفعل الإفراط في التدخين، في الوقت الذي يمكن للتوازن الوجداني أن يحمي صحتنا وسعادتنا على حد سواء..