نقلاً عن موقع
info@balagh.com في كل مناسبة، وبدون مناسبة، ولا يَكُفُّ المثقف العربي عن تكرار لازمةٍ رتيبة باتت فارغة من فرط الترداد: انطواءُ فِعْلِه الثقافي (أو الفكري) على "دورٍ عظيم" في المجتمع والتاريخ! يذهب بعضٌ بذلك الدور حدوداً يَتَقَدَّس فيها أو يكاد، فيما يكتفي أكثرهم تواضعاً بشرف تَقَلُّدِ مهمة "التنوير"!. قد يمتشق قليلٌ منهم سلاح النقد، غير أنه مذ يعمل معول ذلك النقد في كل المؤسسات والسلط (= المعرفة)، ولا يُلْقي بالاً إلى مخزونه ن الأفكار والبداهات والمقدسات، محرّراً نفسه _ بذلك _ من ثقل الشعور باستواء سلطته (المعرفية) مع سائر السلط التي تفترض النقد والتفكيك، وباتيا بها (= نفسه) عن حمل عبء النظر بعين الفحص والمراجعة لموضوعٍ هو _ هو _ ذاته!
يردّد "مثقف الشرع" مقالته التقليدية الموروثة، الذاهبة إلى تقليده تكليفا رساليا متعاليا، فَيَكِلُ إلى نفسه، بمقتضى منطوقها النصّي البَيِّن أو بمقتضى مُسْتَنطَقها المؤوَّلِ على سبيل الاستنباط، دوراً يعلو على أي "مضارع": يكون فيه الوسيط بين حقائق الوحي وأَفْهَام الناس، ويكون فيه شارحَ المُسْتَغْلَقِ والمُمْتَنِع، وحارسَ القول المقدَّس من إثم السؤال ودهشة الاستفهام! لا يقف في طابور الانتظار بحثا عن اعترافٍ وتسليم، ينتزع ذلك لنفسه بقوة النصّ الديني، فلا يتردد في تنبيه مخاطبيه بأن "العلماء ورثة الأنبياء"، وبأنه _ هو من دون سواه _ المشمول بعناية النصّ والتعيين الوارد فيهّ ومتى ما كان له ذلك _ في أعين جمهوره _ ارتفع سهمُه، وعزّت قيمةُ بضاعته المعرفية، واختَار خطابُه الحُجية اختياراً يعلو على المضاهاة عُلُوَّ مرجعيته على سائر المرجعيات المعدودة في عِداد علام الإِمكان والنسبي، لا في عداد الواجب والمطلق!
وعلى مثاله، تتعاقب أفعال الادعاء الفقهي لد
ى مراتب المثقفين المهجوسين بتنمية العمران المدني على مقتضى حاجات الاجتماع. ومع أن هؤلاء لا يجري تعيينٌ أو تعريف لوظائفهم على أساس من الإلزام الديني، شأن الأوَّلين/ إلا اداعاء اختِيَاز القول الفصل في شؤون الدنيا والدينّ إنهم جميعاً _ وطنيون وقوميون واشتراكيون وديموقراطيون وليبراليون _ سَدَنَةُ الحقيقة ( = الاجتماعية في أقلّ حال), وأهلُ "رسالة عظيمة" (الوحدة، والتنمية، والعدالة، والديمقراطية...).
نهاية الداعية عبد الإله بلقزيز. وهُمْ جميعاً من مفتاح التاريخ، وشيفرة التغيير والتقدم: دونهم _ ودون دورهم الرسالي _ لا يكون الناس أكثر من حقيقة فيزيائية لا تضيف إلى تراكم التاريخ إلا أرقاماً في رصيد الديمغرافيا! إنهم _ أيضاً _ ورثة الأنبياء دون تصريح، وهُم مَنْ لا تجري سُنَنُ الاجتماع الإنساني بدون فَتَوَاهمْ في شؤون الأمة، والشعب، والوطن، والطبقة. هُمْ المبشرةُ بالتاريخ، وقابلتُه التي تَعْلَمُ ما في الأرحام.. إلخ!
ومع ذلك، مع كل هذا الأداء الثَّخين الذي تَنْضَحُ به خطابات المثقفين العرب _ وهي خطابٌ واحدٌ أَحد! _ تَفْجَؤُنا مفارقة حادة في مَقُولِهم، وفي نظرتهم إلى أنفسهم: فَإِذ هُمُ منصرفون إلى مديح وبناء الاعتبار الذاتي، والتباهي بما حَبَاهم به الله، والشعب والأمة، والطبقة، من رِفْعَةٍ في المقام وَوَثِيرٍ في الحال، تَرَاهم نَاكصِينَ إلى نَقْدٍ عنيف العبارةِ والمعنى للسلطان الذي يُلقِي القَيْدَ على رسالتهم، فيستطعفُهُم في الأرض كما استضعف الذين مِنْ قَبلهم! والسلطان المقصود _ هنا _ هو سلطان الدولة والسياسة. وهكذا يرفعون العقائر منددين بسطوة أهل السلطان السياسي الممتدة إلى ممالكهم (= المعرفة)، وحقوقهم (=الرأي والتعبير), ووظائفهم (التوعية والتنوير), لنجد أنفسنا _ بمقتضى ذلك _ أمام كيمياء "فكرية" يختلط فيها شعور التفوق والتعالي بشعور الصَّغَار والدَّعة، وتختلط فيها الملحمة بالبكائية، على نحوٍ لا يُتْقِنُه إلاّ... المثقف العربي