كان تنيسي وليامس أحد أعظم كتاب المسرح في أميركا خلال القرن الماضي. وقد عاش حياة يلفها الغموض والحزن والعزلة. وفي بعض عزلته جاء إلى طنجة وكتب عنه محمد شكري، ولكن في عجالة، كما كتب عن كبار كتاب الغرب، الذين امضوا شيئاً أو ردحاً من الوقت عند ذلك الملتقى البحري العابق بالذكريات. وقد صدر أخيراً كتاب بعنوان «مفكرات» للمسرحي الاميركي يقع في 828 صفحة. والكثير من الكتاب يوميات لم تكن تعني سواه، ومحاكاة للذات لم يكن المقصود منها أن تترك لباحثيه ومؤرخيه. «شاهدت اليوم للمرة الأولى عصفور أبا الحناء، بل عصفورين». لكن الرحلة في تلك اليوميات هي إبحار في عالم النفس المضطربة والضعيفة. وبينما كان العالم السينمائي والمسرحي يخرج إلى حضور أعمال وليامس، كان هو يعد العمل التالي في قفص نفسي مريع.
لم يخرج من نفسه إلا إلى الإنسان الآخر، الذي أحبه في حياته: شقيقته روز، التي قال الأطباء وهي في الثامنة عشرة إنها تعاني من انفصام حاد في الشخصية، ووقف هو عاجزاً لا يستطيع شيئاً للشقيقة المعذبة. ويكتب لنفسه في يومياته «روز، يا شقيقتي الحبيبة الصغيرة، كم أفكر بك وكم أتمنى لو أنني أستطيع أن افعل شيئا». لكنه كان يدرك أن الشيء الوحيد الذي يستطيعه هو أن يكتب عنها. وقد رسمها في 15 مسرحية على الأقل. وكانت اشهر صورها في دور بلانش دوبوا في «عربة تدعى الرغبة»، التي حولت إلى فيلم لعب فيه دور البطولة مارلون براندو وجوان وودورد، ومن شاهد جوان وودورد في شخصية بلانش دوبوا لا يمكن أن ينسى أعمق ما وصل إليه التشخيص المسرحي أيام الشاشة الفضية.
يكتب وليامس في مفكرته عن «الكابوس الدائم»، الذي عاشت فيه روز وليامس «إننا جميعاً محكومون بالسجن مدى الحياة»، ويقول «إنها أعطت حياتي الكثير من النبل وما عرفته من نعمة وعطف». لقد ساعده مرض شقيقته على أن «أحمي نفسي من شياطيني»، وهرب من تلك «الشياطين» إلى الكتابة، أو بالأحرى عبرها، لكن الأسى لم يخرج منه. فقد وزعه على جميع أبطاله. ويقول يائساً في مفكرة من عام 1979 «ربما لم يكن مقدراً لي أن أكون»، لكنه يستدرك سريعاً، ماذا لو انه لم يكن؟ من كان سينشئ أبطاله وأشخاصه وقضاياهم وصراعهم مع الحياة والناس، خصوصاً صراعهم مع الذات؟ لقد حول وليامس القلق والتوتر إلى فن، كما يقول ريتشارد غراي.
وكان من حظه ـ وحظ المشاهدين من جيلي ـ انه وضع مسرحياته في زمن الكبار. ولذلك لم يكن أحدنا يعرف أين يبدأ الممثل وأين يبدأ الكاتب وأين ينتهي المخرج، ونحن نرى مجموعات مثل آفا غاردنر واليزابيث تايلور وبول نيومان وريتشارد بورتون، تشخص الأدوار التي رسمها وليامس، ووضع لها تلك الحوارات الداكنة المقتضبة والحادة. وقبل صدور مفكراته لم نكن نعرف إلى أي مدى كانت ريشة وليامس ومحبرته قريبتين منه. كانت الريشة والدواة، شقيقة تدعى روز، سوف نعرفها على المسرح وفي السينما بأسماء كثيرة. لم يذهب وليامس بعيداً في البحث عن «أبطاله» لكنه ذهب عميقاً في نفق النفس البشرية ساعة الغسق الطويل